فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لكن الإنسان ادّعى لنفسه القدرة على أداء الأمانة. وكأنه قد وثق من نفسه أنه سيؤديها، وهو لا يعلم بأي شيء حكم ذلك الحكم على أمر غيبي مستقبلي.
صحيح أنه ساعة التحمل كان في نيته أن يؤدي الأمانة، لكن ماذا عن ساعة الأداء؟. وأنت لا تعرف ماذا تجيء به الأحداث والأغيار معك، فقد يأتي لك ظرف تضطر أن تبدد فيه الأمانة؛ لذلك تجد العاقل هو من يقول: ابعد عني أمانة الاختيار، لأني لا أعلم ماذا ماذا ستفعل بي الأغيار لحظة الأداء. وكل ما دون الإنسان أعلن عدم تحمل الأمانة وقبل التسخير، أما الإنسان فأعلن قبول الأمانة وأنه سيؤديها. ووصفه القرآن الكريم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
ظلومًا لنفسه لأنه حمّل نفسه شيئًا ليس في يده. وجهولًا لأنه قاس وقت التحمل ولم يذكر وقت الأداء. فلم يضع في الاعتبار ما سوف تفعل به الأغيار.
ويقول الحق عز وجل هنا: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وكثير من التصرفات السلوكية للإنسان تكون مستترة عن أعين الخلق؛ لأن أعين الخلق حين ترى جريمة ما، فهي تستدعي رجال القانون ليأخذوا حق المجتمع من المجرم، لكن ماذا عن الجرائم المستترة؟.
نحن نعلم أن كل جريمة تطفو وتظهر واضحة إنما توجد تحتها جرائم مختفية؛ لأن الذي يقتل إنما يخفي جرائم أخرى؛ مثل شرائه السلاح بدون ترخيص، وإن كان لا يملك نقودًا فقد يسرق ليشتري السلاح، ثم يقوم بتجنيد غيره لمساعدته في القتل، وكل ذلك جرائم مستترة، وبالتأكيد هناك سلوكيات باطنة يأتي بعدها السلوك المقلق للمجتمع وهو الجريمة الظاهرة، وقصارى قانون البشر أن يحرس المجتمع من الجرائم الظاهرة فقط، لكن عين القانون لا ترى الجرائم الباطنة والخفية، أما عين الدين فتختلف، إنها ترشد الأعماق إلى الصواب؛ لأن الدين أمانة وضعها الحق- الذي خلق الخلق- في ضمير الإنسان.
فإياك أن تخون الأمانة في الأمور السرية التي لا يعرفها أحد سوى الله؛ لأن الأمور التي يعرفها الناس يمكن أن تدافع عنها أمام هؤلاء الناس، بخلاف الأمور الباطنة وهي المهمة؛ لأنها هي التي تسيطر على إيجاد السلوك.
فإياك أن تخون الله والرسول، وتخون الأمانة التي وضعت لك. ولا حجة لك- في ذلك- إلا اختيارك. إن شئت فعلت وإن شئت تركت، وعلى الإنسان ألا يخون الأمانة التي بينه وبين ربه وإذا لم تتوافر الحراسة الإيمانية من ضميره على الأعمال الباطنة قد ينحرف؛ لأن كل جريمة ظاهرة إنما تتم بتبييت أمرٍ باطن.
وما دمت قد آمنت بالله تعالى ربّا بمحض اختيارك، فالتزم بالأشياء التي جاء لك بها من آمنت به، وأنت تعلم: أن الإيمان هو علة كل تكليف، وعلى سبيل المثال؛ أنت تصلي خمسة فروض لأن المشرع أمرك بذلك؛ تصلي في الصبح ركعتين، وفي الظهر أربع ركعات، وفي العصر أربع ركعات، وثلاث ركعات في المغرب، وأربع ركعات في العشاء؛ لأن المشرع وهو المولى سبحانه وتعالى أمرك بذلك. وأنت تصوم لأن الله أمرك أن تصوم، فإن أدركت من بعد الصيام أن فيه منافع لك، فهذا موضوع آخر، ومع ذلك تظل علة الصيام أن الله أمرك به، وهكذا تكون علة كل حكم هي الإيمان بمن حكم بهذا الحكم.
{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} [الأنفال: 27].
وما الخيانة؟. إن مادة الخيانة كلها الانتقاص؛ وضده التمام، والكمال، والوفاء. ويقابل كل ذلك الاختيان والغدر. فإذا كان الله يقول لنا: لا تخونوا الله والرسول، فعلينا أن نلتزم؛ لأن التشريع وصلنا من الله بواسطة الرسول، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله؛ لأن الله لم يخاطبنا مباشرة، بل خاطب رسولًا اصطفاه من خلقه وأيده بمعجزة. وكل بلاغ وصلنا إنما كان بواسطة الرسول.
{لاَ تَخُونُواْ الله والرسول}.
فلا تخن الله فيما جاء في القرآن، وجاء من الرسول المفوَّض من الله بأن يشرع. وتشريع الرسول واتباعه جاء في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
فلله أمانة فيما نص عليها قرآنًا، وللرسول أمانة فيما لم ينص عليه القرآن إلا بتفويض قائل القرآن للرسول بأن يشرع، فإن أطعت هذا الرسول، فقد أطعت الله.
وعرفنا أن الاختيانَ هو الانتقاص، ومعنى الانتقاص هو الوقوف بعيدًا عن الكمال والإتمام المطلوب. والإنسان حين آمن يصبح للإيمان في النفس أمانة.
فأنت قد آمنت أنه لا إله إلا الله، وأمانة هذا الإيمان تقتضيك ألاَّ تجعل لمخلوق ولاية عليك ولا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعًا من اتباع منهج الله تعالى. وهذه هي أمانة الشهادة، أما أمانة الرسالة فهي الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه قدر الاستطاعة.
إذن فالأمانة مع الله تعالى أن تلتزم بكلمة الإيمان في أنه لا إله إلا الله، وإياك أن تعتقد في أن أحدا يمكنه أن يتصرف فيك، أو يملك لك ضرًّا أو نفعًا، أو أن مصالحك ممكن أن تقضى بعيدًا عن الله، فكل شيء بيد الله سبحانه صاحب الحول والطول ولا إله إلا الله، وإياك أن تفهم أن حكمًا يجيء لك عن غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إن خرجت عن هذا الإطار تكون إنسانًا لم يؤد أمانة الله ولا أمانة الرسول.
والقمة في الأمانة هي إيمان بالله، وإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. والله قد أمر بأحكام وحين تقبلها فلها أمانة، وأمانتها هي أداؤها من غير نقص في شيء سواء كان عامًا أو خاصًا، ولو في الحديث يجري أمامك، وتمتد أمانة الإيمان إلى كل شيء، مثل أمانة أي مجلس توجد فيه، فلا يحق لك ان تنقل أسرار غيرك إلى هذا المجلس أو أسرار المجلس إلى آخرين.
ونعرف رجلًا من قادة العرب هو زياد بن أبيه وكان شديد الحزم، فوشى واش بهمام بن عبد الله السلولي إلى زياد، وتوقع القوم عقابًا صارمًا بهمام؛ لأن زيادًا كان يأخذ بالظن، لكن الله ألهم همَّامًا كلمة ظلت دستورًا يطبق، وحين استدعى زياد همامًا، قال زياد: بلغني أنك هجوتني. قال همام: كلا أصلحك الله. ما فعلت ولا أنت لذلك بأهل. فقال: إن هذا الرجل- وأخرج الرجل من الخباء- أخبرني. فنظر همام إليه فوجده جليسًا وصديقًا ومؤنسًا، فلما رآه كذلك أقبل عليه وقال: أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليًا فخنت، وإما قلت قولًا بلا علم فأبت- رجعت- من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة الخيانة والإثم، أي إما أنك خائن أو آثم، فإن كنت قد ائتمنتك على كلمة نفست بها عن نفسي فأنت خائن، وإن كنت اختلقتها عليّ فأنت كاذب، فأعجب زياد هذا المنطق، وأقصي الواشي ولم يتقبل منه. ويقال إنه خلع همام الصلة والعطايا. فكان همام حين يرى الواشي يقول له: هل لك في وشاية أخرى تغنيني؟!
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وقائع حدثت في تاريخه حتى من بعض الصحابة، وعلى سبيل المثال: نحن نعلم أنه حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جعل عهدًا بينه وبين اليهود، فاستقام لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استقاموا للعهد، فلما خالفوا هم العهد؛ أراد رسول الله أن يؤدبهم، فأدبهم، وكان أول ذلك في بني النضير وأوضح لهم أنه لن يقتلهم، بل سيكتفي بإخراجهم من ديارهم وإبعادهم إلى الشام.
ثم حدثت خيانة من بني قريظة، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من الزمن. فبعثوا إلى رسول الله من يقول: يا رسول الله إن بني قريظة يريدون ان تصنع بهم ما صنعته مع بني النضير، أي أن بني قريظة يعرضون ترك البلاد إلى الشام، فرفض الرسول ذلك إلا بعد أن يحكّم فيهم سعد بن معاذ، وكان يحب بني قريظة وبينه وبينهم صلة، وعرف بنو قريظة أن رسول الله يطمئن إلى حكم سعد بن معاذ فقالوا: لا ولكن أرسل لنا أولًا أبا لبابة، وهذه كُنْيته، أما اسمه فهو مروان بن عبد المنذر، وكان ماله في يد اليهود يتاجرون له فيه، أي أن بينه وبينهم صلةً مالية.
ذهب أبو لبابة إلى اليهود، فاسْتَشاروه في الأمر متسائلين: أنرضى بحكم سعد بن معاذ؟ فماذا قال أبو لبابة؟ قال: إنه الذبح، وأشار إلى حلقومه، وبعد ذلك لام أبو لبابة نفسه وقال: والله ما جالت قدماي حتى تيقنت أني خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن انظروا إلى الإيمان، ويقين الإيمان، وترجيح أمر الآخرة على أمر الدنيا، والنظر إلى أن افتضاح الإنسان في الدنيا أمر هين بالنسبة لافتضاحه في الآخره.
ذهب إلى سارية المسجد- أي عمود في وسط المسجد- على مرأى ومشهد من الناس، وحكم على نفسه بأن يربط نفسه بالسارية بيده، وظل لا يَطْعَم ولا يَشْرَب سبعة أيام، حتى خارت قواه وغشي عليه وسقط، فعطف الله عليه، وأبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قد تاب عليه. فقالوا له: حل نفسك بنفسك لأنك أنت الذي ربطت نفسك، فقال: والله لا أحلها حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحله من السارية.
لماذا فعل أبو لبابة ذلك بنفسه؟ لأنه شعر بأنه خان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه قال لليهود إنه الذبح.
وهناك صحابي آخر هو حاطب بن أبي بلتعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع أمره لفتح مكة وأراد أن يستر مقدمه حتى تفاجأ قريش. وتكون المفاجأة سببًا في عدم تولد اللدد وليتم الصلح. لذلك كتم الأمر، وبعد ذلك جلس رسول الله بين صحابته وأعلمه الله أن حاطبا قد أرسل إلى قريش يخبرها. فانتدب عليًّا ومعه صحابيان وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا إلى مكان حدَّده لهم في الطريق إلى مكة ليجدوا فتاةً معها كتاب إلى قريش، فلما ذهبوا إلى المكان المحدد وجدوا الفتاة، فقال لها الإمام عليّ: أخرجي ما معك، فقالت: ليس معي شيء.
فمسك عليّ بن أبي طالب عقيصتها وأخرج الكتاب من المكان الذي تخبئ فيه أشياءها، فوجد رسالة تحذير لقريش، وعاد عليّ- كرّم الله وجهه- بالرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حاطبا: ما حملك على هذا يا حاطب؟
قال: والله يا رسول الله لقد علمت أن ذلك لا يضرك في شيء، وأن الله ناصرك.. ناصرك، ولكني أردت أن أتخذ لي يدًا عند قريش، لأنني رجل ضعيف ولا مال لي ولا أهل.
فعفا عنه رسول الله صلى الله وسلم رغم أن هذا نوع من اختيان الرسول. ولكنْ عليك أن تعلم أن كل مخالفة لحكم قبلته من الله الذي آمنت به يعتبر خيانة للأمانة.
{لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
أي لا تخونوا الله والرسول في المنهج ولا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وأنتم تعلمون، أي ألا يخون أحدكم قومه عن عمد، ويؤخذ من هذا القول ثبوت المغفرة في حالة الخطأ والنسيان، والممنوع أن تخون وأنت تعلم وتقصد، لكن إن حدث أمر بسبب فلتة لسان، فاعلم أن ربنا سبحانه وتعالى غفور رحيم، وله فضل عظيم، لا يأخذك بالسهو، وأنتم تعلمون بالفطرة أن مثل هذا الفعل رذيلة لا يقبل عليها إنسان كريم، ولو لم يكن متدينًا، وعليك أن تقيس الأمر بمقياس واضح هو: أتحب أن يفعل أحد معك نفس ما تفعله مع غيرك؟. وهذا سؤال تكون إجابته دليل الفطرة. فإن عرفت أن الفطرة ترفض الفعل ولا تقبله، فعليك ألا تفعله، لأنه مناف لهذه الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، وعلى سبيل المثال: إن اللص لو تخيل نفسه مسروقًا لما رضي أن يسرق، والمعتدي على العرض، لو تخيل أن هناك من يعتدي على عرضه لما اقترف الاعتداء على عرض الغير بهدف تحقيق شهوة في النفس. وما لا ترضاه لنفسك يجب عليك ألا ترضاه لغيرك. أتحب أن يخونك أحد في حديث أو في أمانة؟ لا؛ لذلك عليك أن تقيس كل أمر لا من الطرف الآخر، بل من طرفك أنت.
إذن فقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي متعمدون، غير ناسين أو ساهين، أو جاء الأمر كفلتة لسان؛ لأنكم إذا كنتم تعلمون، ففي ارتكاب هذه الأفعال خيانة والله ينهي عن ذلك فيقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].
ونلحظ أن الخطاب هنا لجماعة المؤمنين، وجاءت الأمانات أيضًا جماعة، وأنت حين تُفصِّل الأمانات المجموعة على القوم المخاطبين بذلك، تعلم أنَّ على كل إنسان تكليفًا محدودًا هو ألا يخون أمانته مثلما يقول الأستاذ للتلاميذ: أخرجوا أقلامكم. فعذا أمر لجماعة التلاميذ بأن يخرج كل واحد قلمه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الخيانة في القرآن بإزاء خمسة معانٍ:
الأول: أنَّ المراد بالخيانة: الذَّنب في الإسلام، كهذه الآية، لمَّا نزلت في أبي لبابة.
الثاني: الخيانة: السرقة، قال تعالى: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] نزلت في طعمة، لمَّا سرق الدرعين.
الثالث: نقض العهد، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58].
الرابع: الخيانة: المخالفة، قال تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} أي: خالفتاهما في الدين؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط.
الخامس: الخيانة: الزِّنا، قال تعالى: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52] يعني: الزنا.
قوله: {وتَخُونُوا}
يجوزُ فيه أن يكون منصوبًا بإضمارِ أنْ على جواب النَّهي، أي: لا تجمعوا بين الخيانتين.
كقوله: [الكامل]
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتِيَ مِثلَهُ ** عَارٌ علَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

والثاني: أن يكون مجزومًا نسقًا على الأوَّل، وهذا الثاني أولى؛ لأن فيه النهي عن كلِّ واحدٍ على حدته بخلاف ما قبله فإنَّه نهيٌ عن الجمع بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلٍّ واحدٍ على حدته، وقد تقدَّم تحريره في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] أول البقرة.
و{أماناتكم} على حذف مضاف، أي: أصحاب أماناتكم، ويجوزُ أن يكونوا نهوا عن خيانة الأماناتِ مبالغةً كأنَّها جعلت مخونةً.
وقرأ مجاهدٌ ورويت عن أبي عمرو {أمَانتكُم} بالتَّوحيد، والمراد الجمع.
وقوله: {وأنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومتلَّقُ العلم يجوزُ أن يكون مرادًا أي: وأنتم تعلمون قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها، ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر، أي: وأنتم من ذوي العلمِ. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}
الخيانة الاستبطان بخلاف ما يُؤَمَّل منك بحق التعويل، فخيانةُ اللهِ بتضييع ما ائتمنك عليه، وذلك بمخالفة النُّصح في دينه، وخيانة الرسولِ بالاتصاف بمخالفة ما تبدي من مشايعته.
والخيانة في الأمانات بترك الإنصاف، والاتصاف بغير الصدق.
وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة، فمن اؤتمِنَ في مالٍ فتصرَّفَ فيه بغير إذن صاحبه- خيانة، ومن اؤتمن على الحُرَم فملاحظته إياهن- خيانة. فعلى هذا: الخيانةُ في الأعمال الدعوى فيها بأنها من قِبَلَك دون التحقيق بأنَّ مُنْشِئها اللهُ.
والخيانة في الأحوال ملاحظتُك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك في شهود الحق، إن لم يكن استهلاكك في وجود الحق. وإذا أَخْلَلْتَ بِسُنَّةٍ من السُّنَنِ أو أدبِ من آداب الشَّرع فتلك خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والخيانة في الأمانات- بينك وبين الخلْق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلًا عن المعاملة بالفعل. اهـ.